قزقزات الذكريات

“يقال إنّ الوُهام هو اضطرابٌ عامّ في التفكير يتَّسم باعتقاد ثابت زائف خياليّ مبنيّ على الخداع في نفس المريض وهو راسخ لا يتزعزع حتّى لو اعتقد الآخرون من حوله خلاف ذلك أو برزت له أدلّة دامغة تنفي ذلك”

* * *

“بدأتُ حديثي بـ “حتّى لا نكذبُ على أنفسنا”، التفتَ لي (هيجل) قائلًا: “إنّ نفيَ الشيء يعني إثباته”

 

* * *

قالَ لي (شحاتة): “الكتابة هي أصعب شيء في هذه الحياة بل هي أقسى من الساطور على رقبة الذبيحة”، وافقته، وبدأتُ أقتل متعة تأمّلنا وقت الغذاء في المطعم بشرح معاناتي أثناء كتابة قصيدة جديدة، في النهاية سألتهُ باهتمام: “لكن كيف عرفتَ، وأنت لم تكتبْ حرفًا يومًا، ولم أعرفْ عنكَ أنّكَ تحبّ الكتابة الأدبيّة!”

أخبرني عن فشل محاولات كتابة ما يفكّر بهِ وحيدًا من أحلام، وهزائم، وتأنيب، ومحاكمات قبل النوم.

* * *

إلّا أنَ ذلك لم يمنع ضميري من تقبّل فكرة أنّ الهجران هو طوق نجاة لها من مصيرها المظلم معي، فباح ضميري لها بالفكرة عن اقتناع.

* * *

قالتْ جدّتي الحكيمة: “الأشياء الجميلة لا تطيب إلّا بالمشاركة”

تمنّيتُ أنْ تشاهد الآن من السماء سعادتي لأنّني لم أقرأ شيئًا ممّا يكتبهُ هذا السَّفيه التافه، ليتها ترى وصولي لذروة الشبق من السعادة عندما أجد آخرين يشاركونني هذا الرأي، وهذه المتعة.

* * *

كلّ الذين مرّوا بتجربة العودة من الموت كانت لهم تجارب متشابهة.. مرور شريط الحياة أمام أعينهم، الطيران خارج الجسد، الاندفاع خلال نفق من نور أبيض، الإحساس بكائنات نورانيّة، وربّما قال لهم أحدهم: “عدْ؛ فلم يحنْ وقتُكَ بعد”، إلّا أنا.
بعد تعرّضي لحادثة ثانية أثناء قيادتي السيّارة، كانت حياتي تافهة للحدّ الذي لم يُعرض منها أمام عينيّ سوى ضحكات الآخرين واستهزائهم، وتعاطف البعض وحسرتهم على شخص ما أثناء خلوتهم، لم أكن موجودًا للدرجة التي خُيّل لي فيها أنّني وَهْم أو أنّ الملاك الذي وضع شريط حياتي في جهاز العرض قد أخطأ بوضع شريط لشخص آخر.
لم أجد جسدًا للخروج منه، بل رزمة من الأوهام كُتب عليها أفكار، ورزمة من العاهات كُتب عليها تجارب، ومزهريّة مزخرفة كتب عليها “أنا” يبصق العابرون داخلها، وهي تحاول إقناعهم أنّها لم تكن يومًا كوبًا للغرغرة لدى طبيب الأسنان حتى جاءت ممرّضة واحتضنت المزهريّة كطفلٍ رضيع، وقالت لها بحنان: “يا لسعادتِكِ، كيف فعلتِها؟ أحسدكِ على موتِكِ الناجح”

جاءت سحابة وحملتني حيث صوت عطوف يحادثني: “ما الذي عاد بكَ من الموت إلى الحياة مرّة أخرى أيّها المسكين، عد من حيث أتيت ميّتًا، فلا مكان للموتى في عالم الأحياء” ثم صحوت والطبيب يحاول إدخال الأنبوب الصدريّ عبر ضلوعي بعد أن سحب بعض هواء من رئتي عبر حقنة.

* * *

أردتُ أن تبقى صورتي مثاليّة دائمًا مثلما هي صورتي الآن؛ لذا لم أشعر بالخجل من أفعالي إلّا أمام جدّتي وهي تشاهدني من السماء بعد أن ماتت معتقدة أنّني طفل بريء.

* * *

أوافقك الرأي أنّني متطرّف ضدّ النساء؛ لكنّني سأنكر.

* * *

ما أن فكّرتُ بــــ“لم لا؟”، وهذا سؤال متّفق عليه، دخل التسامح من الباب ليقتل رفضي الشائبَ الهَرِمْ.

* * *

ذهبتُ لعيادة عيون، وكان ملحقًا بها متجر للنظّارات الطبيّة، ومتاجر أخرى متعلّقة بمستلزمات العناية بالعيون، وبعد الفحص اشتريتُ عدسات جديدة لعينيّ، كانت تخصّ أقرب أصدقائي الذي مات قبل أيّام قليلة، وضعت العدستين مكان عدستيْ عينيّ التالفتين، نظرتُ في المرآة، أطلقتُ على نفسي رصاصة لهول ما أفزعتني بشاعتي.

نجوتُ بأعجوبة بعد جهد جراحيّ، بحث الجرّاحون عن عدسات أخرى تصلح لي، زرعوا عدسات جميع الأصدقاء، والأهل، والمتابعين على صفحات التواصل الاجتماعيّ تحت رقابة طبيّة وشرطيّة صارمة كيلا أصيب نفسي بأذى، ورغم هذا لم يحتمل جهازي العصبيّ رؤية نفسي بعدسات أخرى في المرآة، وحاولتُ الانتحار غير مرة.

قرّر فريق الأطباء تركيب عدسات مع توصية طبيّة وفتوى شرعيّة بتحريم النظر للعورات في المرآة.

* * *

دُرّبتُ منذ الصغر أن أكون طفلًا لكنّني كنتُ أراقبهم جيّدًا، وأدرّبهم في الوقت نفسه أن يعاملوني كطفلٍ حقيقيّ. أمِنتُ عواقبَ الأفعال رغم رغبتي الجامحة في اقتراف أشياء مندفعة.

تجاربي الجديدة اقتصرتْ على إتقان القديمة التي اضطررتُ إليها، ولم أتقنها رهبة من التجربة.

* * *

قال مولانا ذو العباءة المهترئة البالية، في أحد الكتاتيب التي كان يرسلني أبي إليها للتعلّم، حكمة بليغة حفظتها عن ظهر قلب: “فاقد الشيء لا يعطيه”

فاستنتجت بنظري الثاقب، وفطنتي النامية مدى ثرائه الفاحش لفرط ما اشترى لي وللرفاق من حلوى وهدايا ولعب صغيرة، وقد أكّد رفيق لي هذا الاستنتاج عندما سمعنا من مولانا حكمة أخرى “فاقد الشيء يتكلّم عنه كثيرًا”

إذ قال صديقي “مولانا لا يتكلّم مطلقًا عن المال، والأبّهة، ولذائذ الملذَات”.

* * *

“وما الذي سيعود عليّ يا عزيزتي (سيسيليا) إذا متُّ، وذكر الناس اسمي بخير أو بِشرّ، الأفضل بعد مماتي أن أتعايش مع حياتي الجديدة ولا أنظر خلفي؛  فلا خلود في الدنيا ولا شيء يربطني بعد الموت مع حياتي القديمة وأنا ببساطة في حياة أخرى، ولا أثر في الأسفل يضيف لي شيئًا بالأعلى، وأحيانًا الرغبة في التخليد بالمنجزات تكون مَرَضِيّة، ومن الجميل عمل الصالح دون التفكير في ترك أثر أو انتظار دعوات الأحياء بالنعيم في رحلة الموت”.

* * *

“أعظم الأشياء في طفولتي هو استنفاذ مصروفي اليوميّ في شراء الشوكولاتة. كان كنزي الذي ضيّعت عمري في البحث عنه دائمًا هو فرد شريط البخت الملفوف بين قطعة الكاكاو وغلافها الفضيّ وقراءة البخت. العيب الوحيد في هذه اللعبة هو تكرار مقولات البخت في بعض الأحيان. تطوّرتْ هذه الهواية لقراءة الحكم والأقوال المأثورة على ورق نتيجة العام الجديد يوميًّا حتّى انتهاء العام.

أحببتُ المفاجآت كما أحببتُ جمع المأثورات والأمثال. اتّجهتُ لجمع أبيات الحكمة من الشعر، والروايات؛ فالاقتباسات من هنا، وهناك من الكتب، ومواقع الإنترنت. قالتها أمّي مرّة: “الحكمة هي خبرة، وتجربة سنوات عاشها البعض، ونُقلتْ إلينا في لحظة”؛ فأضعتُ سنوات في جمعها.
قال أحد أصدقائي الذين خسرتهم جرّاء تطبيقي العمليّ لحكمة عن فنّ التعامل مع الأصدقاء: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، وحكى لي عن قصّة هذا المثل.

ما زلتُ أبحث حتّى الآن عن حكمة أو بيت من الشعر أوصي بهِ ليُكتب على قبري.

* * *

كان والدي طاهيًا للقبيلة.

ما زلتُ أتذكّر عراكه اليوميّ مع الحطّاب على أهميّة عمل كلّ مبارز منهما، وسهولة وتفاهة عمل الآخر.

 

“عملي هو الأهمّ، ولا تستطيع القيام به، بينما أستطيع القيام بعملك بمنتهى السهولة والأريحيّة، نقطة انتهى”

لم يعاقباني يومًا على التهام الدجاجة المطهوّة على الحطب في غفلة العراك، ولم يشعرا بالذنب مطلقًا.

* * *

من أجمل القصائد التي قرأتها قصيدة أمريكيّة، لا أتذكّر عنوانها، ولا كاتبتها، أو كاتبها كالعادة. كانت تتحدّث عن امرأة على فراش الولادة تصف وليدها المولود للتوّ. أتذكّر إنشائي بريدًا إلكترونيًّا وإرسال القصيدة عَبْر رسالة مع الترجمة لشخص لا يعرفني، ولا أعرفهُ ثم حذفت البريد، والرسالة نهائيًّا، ونسيت أن أرسل المضمون له.

* * *

في بداية العام الجامعيّ الجديد، كنتُ قد قررتُ تحويل أوراقي من كليّة الطبّ بعد أوّل سنة فاشلة شهدتُ خلالها بعض العمليات الجراحيّة للعظام، واستئصال أورام العيون للأطفال مع أطبّاء سنة الامتياز من أصدقائي؛ ممّا زادني رغبة أكيدة في تغيير المسار الدراسيّ.

بعد معارك ممتدّة مع الأهل، ساقتني قدماي إلى مدام (مشيرة) لأقدّم لها أوراق التحويل. لم تتركني خلال عدّة مرّات من زيارتي لها إلّا وكنت مقتنعًا، تحت وطأة الإحراج، بالالتحاق بكلّية الصيدلة، وإلغاء فكرة التحاقي بكليّة إعلام القاهرة.

ما زال لمدام (مشيرة) نصيب من دعواتي اليوميّة؛ فهي الوحيدة التي قلبتْ حياتي عقبًا على رأس.

* * *

قرّرتُ أن أكتب قصيدة (الميتا شعر)، عن معاناتي أثناء كتابة قصيدة. عانيتُ أثناء الكتابة عن معاناتي من معاناة كتابة قصيدة، وأنا أعاني القصيدة.

* * *

قال صديقي الشاعر: “من العجب العجاب أن ترى كلّ شخص يُطلق على نفسه شاعرًا، أصبح الشعرّاء والكتّاب من المدّعين بعدد شعرات الرأس يا صديقي” أومأتْ لهُ رأسي بالموافقة.

سمعَنا درويشٌ جالس في الطريق يستند على جدار؛ فهبّ متجهًا نحونا مشيرًا بيدهِ إلينا ويده الأخرى مرفوعة تدور كأنّها تحرّك مصباحًا في السماء صارخًا:” كلّكم من أمواهِ هذا الطوفان، ومن حمم تلك البراكين، صدّقاني سيستريح العالم منكما، ومنهم إذا توقّفتمْ، وانتهيتمْ؛ فحسبْ، يا أولاد الشياطين”

أطلق كلّ منا ساقيه للرياح، ولذنا بالفرار!

* * *

قابلتُ فيلسوفًا حكيمًا، سلّمني ورقة سرّيّة بها رموز عجيبة، أوصاني بتسليمها إلى مفكّرٍ نبيه الذي أوصاني بدورهِ بتسليمها إلى كاتبة متحمّسة دلّتني على عنوان صديقة لي كي أسلّمها إيّاها.

طرقتُ باب صديقتي، مددتُ يدي إليها، فتحت الورقة على عجل ونظرتْ إليها بحيرة، واستغراب عاجز عن الفهم ثمّ بلعت الورقة. أخبرتني بفخر أنّها سترسل مضمونها إلى مجموعات (القوّة الناعمة) عبر برامج التواصل، وأنا أتأمّل بإعجاب.

رجعتُ إلى الفيلسوف، سألته عن رموز تلك الرسالة العجيبة، قال لي:” لايهمّ؛ الأهمّ هل شعرتَ بإعجاب الشفقة؟”

لهذا زاد اقتناعي يومًا بعد يوم، أنّ الفلاسفة حفنة من المجانين، والدجّالين.

* * *

تحقق أيضا من

فيما وراء الذكريات

وهام السعادة الجزء الثاني: فيما وراء الذكريات