عدد أبيات القصيدة
قِفْ بِالدِّيَارِ اسْتَبْكِ زَوَّارَهَا
وَانْدُبْ لَهُ بِالدَّمْعِ آثارَهَا(١)
وَانْشِجْ، وَأَجْهِشْ بِالْبُكَا، وَانْتَحِبْ
وَبَكِّني، وَبَكِّ زُوَّارَهَا(٢)
وَانْحَبْ، وَنُحْ مُسْتَعْبِرًا، وَالْتَمِسْ
لِلنَّفْسِ في الْأَشْجَانِ أَعْذَارَهَا
كَمْ مِنْ أُنَاسٍ فَارَقُوا دُورَهُمْ
وَاسْتَنْفَذُوا بِالظَّعْنِ أَعْمَارَهَا
دُورٌ ثَكالى فَقَدَتْ سَكْنَهَا
لَمْ نَلْقَ بَعْدَ النَّزْحِ دَيَّارَهَا(٣)
أَعْوِلْ عَلَى رَاحِلَةٍ غَادَرَتْ
حَيَّ الْهَوَى مَا وَدَّعَتْ جَارَهَا(٤)
أَشْجَى الدِّيارِ في الْهَوَى دَارُهَا
إِذْ أَدْمَعَتْ بِالصَّمْتِ مَنْ زَارَها(٥)
وَاسْتَأْنَسَتْ بِالضَّيْفِ مِنْ شَوْقِهَا
فَحَدَّثَتْ نَزِيلَهَا أَسْرَارَهَا
فَاضَتْ أَسًى، تَاقَتْ لِأَصْحَابِهَا
في لَهْفَةٍ تَشْتَاقُ سُمَّارَهَا
غُموضُهَا يَفْتنُ جُلَّاسَهَا
إِنْ زُرْتَهَا سَبَرْتَ أَغْوَارَهَا
يَسْتَوْطِنُ التَفْتِينُ أَنْحَاءَهَا
وَفَيَّحَتْ لِلْكَوْنِ إِبْهَارَهَا
الْتَحَفَتْ بَهيجَ أَثْوَابِهَا
وَلَأْلَأَتْ كَالنَّجْمِ أَنْوَارَهَا
أَبْدَتْ لَنا في الصُّبْحِ عِبْراتِهَا
وَأَسْدَلَتْ في اللَّيْلِ أَسْتَارَهَا
تَخْلُبُ مَنْ دَنَا إِلَى طَرْفِهَا
تَخْطِفُ أَلْحَاظًا، وَإِبْصَارَهَا(٦)
تَصُبُّ في أَعْيُنِنَا حُسْنَهَا
كَأَنَّما تَجْذِبُ أَنْظَارَهَا
أَلْقَتْ على نَاظِرِهَا فِتْنَةً
وَأَهْرَقَتْ لِلْعَيْنِ أَنْهارَهَا
وَأَشْعَلَتْ مَوَاجِعَ الـْمُبْتَلى
بَكَتْ عُيونُ الصَّبِّ إِشْغَارَهَا(٧)
لَمْ يَبْقَ مِنْـهَا غَيْرُ أَنْبَائِهَا
بِخَيْبَةٍ نَجْتَرُّ تَذْكَارَهَا
إِنِّي رُزقْتُ حُبَّ فَتَّانَةٍ
مُذْ أَوْقَدَتْ في مُهْجَتي نَارَهَا
فَقُلْ لَهَا: (قَلْبُ الْفَتَى غَارِقٌ
في قِصَّةٍ مَا مَلَّ تَكْرَارَهَا)
وَقُلْ لَهَا: (إِنِّي تَعَشَّقْتُهَا
أَدْمَنْتُ لَيْلَهَا، وَأَسْحَارَهَا)
أَوَّاهُ مِن عَيْنٍ بَكَتْ لَمْ تَنَمْ
وَلَازَمَتْ في الليلِ إِسْهَارَهَا
فَاحْزَنْ عَلَى مَنْ طَالَ هِجْرَانُهَا
قَدْ خَبَّأَتْ في الليلِ أَقْمَارَهَا
غَابَتْ بَعيدًا هَرَبَتْ بَعْدَمَا
قَضَتْ بِهَذَا الْعِشْقِ أَوْطارَهَا
وَيْلَ الْفَتى الْوَلْهَانِ مِنْ لَحْظِهَا
يَا ويْلَهُ إِنْ ذَاقَ بَتَّارَهَا
مَنْ لي بِأَيَّامٍ خَوَالٍ مَضَتْ
كَانَتْ دُروبُ الشِّعْرِ مِضْمارَهَا
فَاتِنَةٌ قَدْ أَلْهَمَتْ وَحْيَنَا
تُلَقِّنُ الْأَلْسُنَ أَشْعَارَهَا
فَاقْصُصْ لَنَا مِنْ نَفْحِهَا سِيرَةً
كَانَتْ دُرُوبُ الْحُزْنِ مِشْوَارَهَا
وَاحْكِ لَنا مِنْ فَيْضِهَا لَـمْحَةً
وَسُقْ لَنَا في الْبُعْدِ أَخْبَارَهَا
وَقِفْ عَلَى رُسُومِ أَطْلالِهَا
وَاسْتَقْصِ في تَهنِّفٍ دَارَهَا(٨)
عِمْتَ اشْتِيَاقًا، ونُزُولًا بِها
عِمْتَ حَنِينًا عِمْتَ إِعْمَارَهَا
أَنَالَكَ اللَّهُ لَها حَجَّةً
رُزِقْتَ بالوِصالِ إِبْرَارَهَا(٩)
عَنِيدُةُ الْقَلْبِ مِزَاجِيَّةٌ
مَلِيحَةٌ نُجِلُّ مِقْدَارَهَا
مَعْسُولُ قَوْلِهَا بِأُمْسِيَّتي
يُشْعِلُهَا، يُصْبِحُ أَذْكَارَهَا
كَلامُهَا كَالنَّاي في سِحْرِهِ
وَشَهْدُهِ أَصْبَحَ مِزْمَارَهَا
كَأَنَّهَا بِالْعَزْفِ قَدْ رَنَّمَتْ
فأَطْرَبَتْ بِاللَّحْنِ أَوْتَارَهَا
مَسَّتْ شِعَافَ الْقَلْبِ؛ فَاسْتَدْمَعَتْ
صَبَّتْ نِياطُ الْقَلْبِ هَمَّارَهَا(١٠)
تُبْصِرُها في الْحُسْنِ حُورِيَّةً
هَيَ الْجِنَانُ للذي اخْتَارَهَا
عِشْقي لَهَا حَقِيقَةٌ مَحْضَةٌ
لَمْ أَسْتَطِعْ في الْعِشْقِ إِنْكَارَهَا
آهٍ لِآهاتٍ بَواكٍ لَهَا
أَصْدَرْتُهَا وَاصَلْتُ إِصْدارَهَا
حَاوَلْتُ بِالْكِتْمَانِ إِخْفَاءَهَا
وَنَبْضُ قَلْبي اعْتَادَ إِظْهَارَهَا
تَبُوحُ أَنْفَاسي بِأَشْوَاقِهَا
يُحَفِّزُ التَّحْنَانُ إِجْهَارَهَا
تَسَلَّلتْ إِلَى السَّمَا صَرْخَتي
وَزَلْزَلَتْ لِلْأَرْضِ أَقْطارَهَا
فأَوْصَدَتْ فَاتِنَتي قَلْبَهَا
زَهْوًا، وَأَعْمَى الْكِبْرُ أبْصَارَهَا
وَغَلَّقَتْ أَبْوابَهَا، وَاخْتَفَتْ
وَلَّتْ بِهَذَا الْحُبِّ أَدْبَارَهَا
وَبَعْدَ إِطْباقٍ عَلَى بَابِهَا
تُوغِلُ في الْـمِغْلَاقِ مِسْمارَهَا(١١)
أَجْرَتْ بِصَمْتِهَا اتِّفَاقِيَّةً
وَأَيَّدَتْ بِالْجَفْوِ إِقْرَارَهَا
فحَرَّمَتْ عَلَى مُحِبٍّ لَهَا
عَطَاءَ نَفْسِهَا، وَإِيثَارَهَا
اسْتَنْكَرَتْ ذِكْرَاهُ في قَلْبِهَا
كَأَنَّمَا قَدْ أَصْبَحَتْ عَارَهَا
كَأَنَّهَا بِالْحُبِّ قَدْ دَنَّسِتْ
مُقَدَّسَاتِهَا، وَأَسْفَارَهَا(١٢)
المعاني
(٢) انشج: ابكِ بنشيج، زُوارها: زائروها.
(٣) السَّكن والديَّار: أهل الدار.
(٤) أعول على: ارفع صوتك بالبكاء والعويل.
(٥) أشجى الديار: أكثرها حزنًا.
(٦) ألحاظ: جمع لَحاظ، لَحظْ(تاج العروس).
(٧) إشغارها: إخلاءها.
(٨) استقْص: تبحّثْ، وتتبّع أثر الدار بإمعان، تهنّف: بكاء.
(٩) إبرارها: قبولها.
(١٠) شعاف القلب: رؤوس عند معلّق النياط، همّارها: سحابها السيّال.
(١١) مغلاق: قفل.
(١٢) أسفارها: كتبها المقدّسة.