في مغرب يوم.. ساقتني عربة إسعاف بعد حادثة سيارة إلى أحدالمستشفيات في ضاحية المعادي شرق (القاهرة)، وكما يقال أنّ الجسم البشريّ بعد أيّ حادثة يفرز مضادّات الألم؛ لذا كنت أتأمّل ساقي المكسورة دون أدنى إحساس بوجع، واستمرّ هذا حتّى صحوي في غرفة الإفاقة المجاورة لغرفة العمليّات حين أفقت بعد العمليّة الجراحيّة على ألم شديد.
كانت أيّامي وجعًا بلا نوم، طالبتُ الممرّضة مرارًا بمسكّن للألم أو منوّم، أخبرتني أنها حقنتني بأقصى جرعة ممكنة من عقار (البيسادين)، وأنّ جسمي لن يتحمل جرعة إضافيّة.
حقنتْ الممرّضة عقارًا في جهاز المحاليل، وانصرفتْ ببرود كمَن اعتاد على صراخ، واستنجاد المرضى دون إبداء اهتمام، شعرت بالحرارة وآلام الرأس والدوخة.
سألتني ملاك رحمة أخرى عن استعدادي لاستقبال المحقّقين للوقوف على أسباب الحادثة أجبتها بالقبول، وأنا أضع يدي على جبهتي من الألم، وما إن أخذتْ الباب بيدها حتّى اقتحمواباب الغرفة كفرقة عمليّات خاصّة؛ أصفاد وأسلحة وبَزَزٌ شرطيّة.
أيقنتُ وأنا أنظر إليهم بعين واحدة قاوَمتْ ثقل الألم أنّهم شرطيّون، لا رجال مباحث، اقتادوني، دون مقاومة منّي، بساقي المجبّرة عبر صندوق خلفيّ لعربة شرطيّة لقاعة مزدحمة بها قضبان كقاعات المحاكم أكاد أتبيّنها أثناء تمدّدي فوق نقّالة عربة الإسعاف.
أصابني غضب بحجم السماء ما أن رأيت ثلاثة مهرّجين من ذوي الأنوف الكرويّة الحمراء يجلسون على المنصّة، لم أقوَ على الاحتمال وانفجرت: (أنتم تمزحون أليس كذلك؟ هل تقدِّرون الألم الذي أعانيه؟ من قال لكم أنّني أحتاج إلى فرقة مهرّجين ليعالجوا حالتي النفسيّة السيّئة من أثر الحادثة بالضحك؟ هل أنتم فرقة علاجيّة من مستشفى ٥٧٣٥٧؟).
قاطعني صوت الهمهمات الخائفة للحاضرين ممّا دفع كبير المهرّجين إلى طرق المنصّةبمطرقة الفلّين الملوّنة قبل أن يوبّخني في جديّة: (إذا تكلمت مرّة أخرى دون إذن سوف تنال عقابك المناسب)..حاولت رفع يديّ المصفودتين في النقّالة بالسلاسل دون جدوى، أقنعتُ نفسي بعد يأس بالاستسلام لهذه الفقرة لننتهي.
بدأت الفقرة اللعينة بارتداء كبير المهرجين نظارة ملوّنة بلا عدسات تتدلّى من حاجبيه إلى ذقنه، وقراءة لفافة قديمة تشبه المستخدمة في تدوين فرمانات العصور الوسطى. “بسم الله، بصفتي قاضي قضاة قرية الرحماء تُرفع الجلسة بعد تنفيذ حكم الموت على المتّهم على أن يعاد فتحها مرّة أخرى لمحاكمته بعد مفارقته الحياة”
قلتُ متحامِلًا بسخرية: (إنّكم مضحكون جدًّا؛ لكنّ مزاحكم هو الكوميديا السوداء في أرقى صورها.. حكم بالموت ثم تبدأ المحاكمة.. متى ستنتهي هذه المهزلة أريد العودة حالًا لغرفتي لاستكمال علاجي).
(تكلم مرّة أخرى وينتهِ أمرك) قالها كبير المهرّجين متابعًا:(اعلم أنّ هذه قوانين قرية الرحماء، ومِن حُسن حظّكوبعد التعديلات الدستوريّة الأخيرة والموسم النيابيّ الأخير أصبح لديك ثلاثة خيارات للموت سيشرحها لك وكيل معاوني نيابات القرية ولتحمد الله أنّنا رحماء بحقّ في قرية الرحماء)
تقدّم نحوي مهرّج آخر في زيّ (الجوكر) راكبا درّاجة بعجلة واحدة وأخرج من جيْبه لفافة من ثلاث لفافات ليفكّ شريطها: (النزهة الأولى هي الإعدام الفوري ولك أن تختار طريقة الإعدام.. أنت تعرف مثل هذا يكون بالسيف، رميًا بالرصاص، بحبل المشنقة، بحقنة السمّ، بالكرسيّ الكهربائيّ، بصاروخ مضادّ للطائرات، بدغدغات الريش للقدميْن حتّى الموت).
قلتُ بسرعة خاطفة ليمرّ كلّ هذا السُّخف: (أكمل، النزهة الثانية؟)، تهلّل وجهه وهو يرمي اللفافة الأولى ويستبدلها ليفكّ شريط الثانية:
(هذه النزهة ستحتاج منك إلى مجهود يليق بك كفارس، إنّها المبارزة حتّى الموت، تبارز مَن تختاره بأيّ طريقة تختارها حتّى تفوز بموت الفرسان).
أشرتُ بثلاث أصابع؛ ففهم وأخرج اللفافة الثالثة ليقرأها بطريقة استعراضيّة بعد فكّ شريطها: (هذه النزهة هي الأكثر إثارة في تاريخنا المعاصر؛ إنّه الموت على طريقة (الكاو بوي) قبّعة، وجينز، ومسدّس ساقية، وطلقة واحدة، وحذاء (كاتربيلر)، وحصان؛ إنّه الغرب الأمريكيّ ياسادة) قالها وهو يطلق شرائط ملوّنة من مسدسه الذي أخرجه أثناء خطبته المؤثّرة.
لا أدري ما الذي جعلني أتناسى الألم والضيق، وأشعر بالفضول والإثارة، هل هي الخطبة الناريّة لهذا (الجوكر) أم شهوة وربكة الاختيار أم عشقي للمقامرة وجنوحي لخوض الاستفتاءات والاستبيانات وشغف انتظار النتيجة لإرضاء نفسي بمكسب.. وكعادتي في أيّ اختيار، وبناء على التوازن الذي يفرضه عليّ برج الميزان ما بين العقل والعاطفة، قرّرت أن أبدأ لعبتي المفضّلة بدراسة الموقف الاستراتيجيّ، ومن ثمّ اتّخاذ القرار.. النزهة الأولى مرفوضة؛ سأُقتل بلا ثمن سأموت فُطوسًا.. الثانية تحتاج إلى قوة، وما أنا عليه من مرض لا يسمح بمبارزة.. الحصان هو الاختيار المتاح، وربّما أنقذتني خدعة؛ وعرفت مكان الرصاصة في ساقية المسدّس، محتمل أن أجعلها أوّل طلقة بمسدّسي.. (الجوكر) لم يذكر مصير الناجي لكنّ المعنى الوحيد لنجاتي هو إنهاء اللعبة، وعدم تنفيذ حكم الموت..
نبّهني كبير المهرجين إلى الوقت بإشارته لساعة الحائط على الجدار أعلاه فأجبته بابتسامة: ((الكاوبوي)؛ الموت على طريقة (الكاوبوي)).
رفعَ جلسته للمداولة حتّى عاد هابطًا من أعلى جالسًا على مقعد خشبيّ يتدلّى بهدوء للأسفل من سقف القاعة مدلدلًا رجليه.. (ها قد اخترنا لك الحكم الرحيم، نظرًا لحالتك الصحيّة، وقرّرنا إعدامك بالمقصلة، ألم أقل لك أنّك في قرية الرحماء؟ لهذا سوف نحاكمك بكلّ رحمة).
تقدّم نحوي رجل أصلع الرأس عدا خصلة بهيئة جنيّ الأفلام الكلاسيكيّة شاهرًا سيفًا عملاقًا، ضربتُ بيديّ نقّالة الإسعاف عدّة مرّات بعنف محاولًا التخلّص من أصفادي غير آبه إن كنتُ مخطئًا في اشتراكي في تلك اللعبة أو كون هذه الفقرة مزحة أو حقيقة..
أمسكتْ ملاك الرحمة إحدى يديّ قائلة: (أهو كابوس؛ أنظر ماذا فعلتَ، لقد حطّمتَ جهاز المحاليل، وأوقعت حاملها على الأرض).. تفقّدتُ بعيني جميع أركان غرفتي بالمشفى،ونبّهتني برودة جسدي الغارق في الماء إلى شدّة تعرقي، واستقرّ نظري على حامل جهاز المحاليل النائم على أرضيّة الغرفة متسائلًا عن نوع العقار الذي وُضع لي في المحلول قبل نومي.